ثقافة التأمل وفضيلة الانتظار د. رجب بن علي العويسي

د. رجب بن علي بن عبيد العويسي - مدونة الحوار- 2013م http://alhwaraleegabe.blogspot.com

ثقافة التأمل وفضيلة الانتظار
د. رجب بن علي العويسي
‏09‏/05‏/2014‏ 11:08:06 ص
يتسم العصر الذي نعيشه بسرعة التغيير وتنوع أدواته وظهور اتساع معرفي وفكري متباين متعدد الاتجاهات،  والتي كان لها تأثيرها في تكيف الانسان مع هذا الواقع وتفرض في الوقت ذاته على الإنسان واقعا جديدا يجب أن يتكيف معه في سرعته ونشاطه وعدم انتظاره ، غير أن  ما يتسم به العصر من سرعة التغيير لا يعني بأي حال من الاحوال أن يجاري الانسان التغيير وسرعته بدون فهم أو تعقل أو لمجرد  قبوله بأسلوب السرعة، بل عليه لكي يوطن نفسه في قبول سرعة التعامل مع التغيير ومتطلبات الحياة  أن لا ينسى فضيلة التأمل وثقافة الانتظار ، هذه الثقافة التي لا تعني أن يكون الإنسان في موقف سلبي استهلاكي ينتظر كل شيء يأتيه بدون أن يكلف نفسه عملية انتاجه أو البحث في مدخلاته او ممارسة واقعه بكل اريحية بشكل يتكيف فيه مع واقع الآخرين وما يستشرفه مستقبل البشرية،
إن كون الإنسان يعيش عالم التسارع والفوضى الجنونية ويجري كالآلة  بسرعة وراء متطلبات  الحياة بدون توقف ويبقى في موضع  الاستهلاك السلبي لوقته وجهده  وتفكيره بدون أن يكون لذلك فرصة للتأمل الكلي للمحيط الذي يعيشه بنفسه وبمجتمعه ومصيره ، أدى بالإنسان إلى أن يكون  ضحية للأفكار الجاهزة والمعلبة والاستهلاكيه التي تشيع في وسطه بدون تأمل أو وعي  ، فيجدها مسلمات  وقواعد تمثل الحقيقة لأنه لم يمنح نفسه فرصة التأمل المتعمق والفهم المتبصر والموقف الذي يقارن  من خلاله الأحداث  بل لم يكلف نفسه عناء التحليل والتشخيص والانتظار ،  لذلك أصبح الإنسان ضحية لطبيعة زماته، يعمل وفق ما يمليه إليه وقته . واصبح  ما يصدر منه في احيان كثيرة إنما  يفتقد لجانب الشعور والإحساس الذاتي المعمق ، وما تصدر منه من كلمات أو معلومات او افكار تكاد تفتقد لجانب الحس والشعور بها، إذ انه لم يعمل على توليدها أو بنائها بقدر ما هي معلومات جاهزة يتناقلها مع غيره بدون أي  تفاعل أو ادراك لمغزاها او فهم لمعانيها.
  إن دعوتنا للتأمل لا تعني الانتظار السلبي ، ولا الاعتماد على الآخر الذي علية أن يصنع وينتج ويبدع ويبتكر ، ولا تعني ان يظل الإنسان معتمدا على غيره، أو  راضيا بواقعه معتمدا على ما يمكن أن تقدمه الأزمان له،   ويصبح منطلق التعامل مع  مبدأ " في التأني السلامة وفي العجلة الندامة"،  بمنطق مغاير فهي لا تعني  سرعة التوجه أو الرغبة في السبق أو قبول التغيير إنما هنا الاستعجال الذي لا يؤدي إلى خير افنسان وبناء المجتمعات ويضيع الإنسان في فكره وعقله ومنطقه، ذلكم الاستعجال الغير محمود الذي لا يفقه منه الفرد سوى ان يكون تبعا لغيره مفكرا بعقل غيره ومتخذا القرار لأن غيره أراد ذلك،  وهو ما يصدق عليه حديث المصطفى عليه أفضل الصلاة و ازكى التسليم " إن المنبت لا أرض قطع ولا ظهرا أبقى"  بل أن دعوة  سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم " خير البر عاجله" يؤكد هذا المنهج  السليم في السرعة ، ومنطق التعامل معها فهي محمودة عندما تكون موجهة ومؤطرة وتستهدف رقي الإنسان في فكره ونمط معيشته واطمئنانه واستقراره ويفهم الإنسان ما يمكن ان تصل إليه نتائجها ، وبالتالي فإن السرعة  المرادة هنا ليس السرعة المعتادة  ذاتها في اطرابها وعشوائيتها واحتمالية خطأها، بل  لتوطين النفس وصدق السريرة من أجل جعل منهج السرعة طريقا نحو التميز والنجاح والتألق والتقدم ، بل هو طريق الاستمرار على الحق والسير على المنهج السليم في الحياة، فالسرعة هنا قائمة على مبادئ سامية وقيم راقية وأهداف محددة وخطط ممنهجة وبرامج وسياسات وأداءات قادرة على الافصاح عن المستقبل المنشود، وتجد فيها الانسانية خيرها ومستقبلها.
إن ما يشيع في حياة الناس اليوميىة من احداث أنتهجها التسارع العالمي في التكنولوجيا والمعرفة، وردة الفعل السلبية التي يراها البعض حجته في التهرب من مسؤولياته بأن يجعل سمة العصر "وهي السرعة " لا تقبل من الإنسان المنتظر أو  ما يمكن أن يشاع بين الناس بأن هذه المعلومة الجديدة التي وصلته عبر وسائط التواصل الاجتماعي ان لم يقم بتعميمها ونشرها  تجعل من الفرد غير مهيأ للعيش في عصر السرعه، وأن المعلومات متجددة وسيأتي في كل ثانية كم آخر من المعلومات، هي في حقيقتها قناعات غير مقبوله  وتتعارض حتى مع فقه التعامل مع السرعة والتغيير ،  فلا ينبغي بأي حال من الاحوال ان يجعل الفرد من نفسه طريقا لنشر الغث من القول ، فكل ما وصل إليه أو تناقلته أجهزه الهاتف الذكية أو  شبكات التواصل عليه أن يقوم بنشره ، فيصبح الفرد ضحية أفكار ومعلومات لا يدركها ، لذلك كانت منهجيات الحياة السليمة القائمة على العلم والمعرفة الحقة، تؤصل لثقافة البحث والتروي والدراسة والتشخيص والتحليل وهي عمليات تؤكد منهج التأمل القائم على اثبات الحقيقة والنزوع نحو الحق وتلمس الصائب من القول والسليم من الأفكار. فإن  ما يحصل من سرعة تداول الأفكار والمعلومات بين الناس بدون تأمل أو تفكر في مدى صلاحيتها أو أهميتها أو الفائدة التي تحققها أو ما يمكن أن تقدمه للناس من توجيه وترغيب وغيره، يستدعي بلا شك أن  تكون ثقافة التأمل حاضرة في السلوك الإنساني، وهي كما ذكرت لا تعني قبول التأخر ولا الرضا بتأجيل العمل ولا الاستكانة لداعي النفس الراغبة في الخضوع والانتظار السلبي ، بل هي دعوة لثقافة التأمل النوعي الواعي المعززة للاختيار من بين بدائل بل هي ثقافة التأمل المبتكر والخلاق القادرة على صناعة المنطق الجديد والمعززة للتفكير الابتكاري ، فهي ثقافة خلق ومبادئة ومبادرة وسعي نحو تلمس الأفضل والثقة بالنفس والرضا بمفهوم السرعة الجنونية الموجهة نحو البناء والتطوير والتجديد وتصحيح الخطأ وضبط انحراف النفس عن الوقوع فيه ، إنها ثقافة الصعود للقمة والسبق في الحصول على مراكز متقدمة، والتي تأتي في إطار من التوازن وبعد النظر وارتكازها على الاخلاق والقيم السليمة والمبادئ العليا وتظهر في ظلها سمو الأهداف وصدق الغايات،  وعليه فان سرعة جري الانسان لتلبية متطلباته  يستدعي ثقافة تأملية لا توقف  السرعة بقدر ما توجه مسارها وتؤصل مبادئها وتضعها في اطار محدد موجه لخدمة الانسان ، وليس معنى حديثنا ذلك أن نضع الناس في قالب واحد في التعامل مع السرعة بل أن يمتلك الجميع الحد الأدنى من  الادوات والآليات  والقيم والمبادئ التي يتكيف فيها مع السرعة ويوجه من خلالها مسارها، ومع القناعة بأن الناس تختلف مداركهم واستعداداتهم في التعامل مع السرعة ومجاراتها إلا أن  ثقافة التأمل هي التي تبقى الحكم في قدرة الفرد على الاستفادة من السرعة والأثر الذي تحدثه في حياة الفرد من سكينة في النفس وثقة في الذات واطمئنان في الحياة وفي الممات،
ومع التأكيد على أن عالم اليوم لا يقبل التأخير أو الانتظار لأن منطق العولمة  والاتساع المعرفي يؤكد أن الفرد او المؤسسة او الدولة او الامة التي لا تقبل السرعة ولا تؤصلها في حياتها او ان من يقبل الانتظار سيكون في مؤخرة الركب فالسرعة الرقمية والتكنولوجية لا تنتظره ثانية واحدة، فإما أن يكون على مستوى من السرعة للحاق بالركب الحضارة البشرية وألا فإن وجودنا في عالم متسارع قد يضعنا في حالة لا وجود , إننا ندرك ما تتطلبه منا متغيرات الحياة وأن علينا واجب اللحاق بركب الحضارة الإنسانية ، إلا أن علينا ان ندرك أن ثقافة التأمل هي تلك التي تجعل من قناعتنا بالسرعة طريقنا لبلوغ الأفضل والوصول إلى القمة بل هي تلك التي تولد فينا العزيمة والرضا والتبصر والفهم والذي يمكن ان نبني عليه مستقبلنا وتقوم عليه الطموحات ونطبق في ظله الأفكار ، ونوطن  في ظله أنفسنا في ظل هوية وانتماء ومسؤولية وحس  وشعور بأساسيات وجودنا كأفراد ، أي بمعنى الآخر نقبل السرعة وأن نكون من المسرعين في غير زوال لوجودنا.

إن هذه المبادئ الحقة هبي ما يحتاج أبنائنا للفقه به والعلم بدورهم نحوه وانه ليس هناك اي تعارض بين قبولنا بالسرعة وثباتنا على منهج التأمل ومعرفتنا بقيمة الانتظار ، وأنه في  عالم اليوم المتسارع تبقى ثقافة التأمل هي الطريق السليم للوصول إلى استشراف المستقبل الغير منظور للبشرية، والطريق الذي يمكن في ظله ان نبني مستقبلنا الذي نريده نحن  بما لا يتعارض مع ما يرتضيه العقل ويركن اليه القلب ويحتكم اليه مستقبل الانسان. 

تعليقات