ثقافة الاعجاب السلبي د. رجب بن علي العويسي

د. رجب بن علي بن عبيد العويسي - مدونة الحوار- 2013م http://alhwaraleegabe.blogspot.com


ثقافة الاعجاب السلبي
د. رجب بن علي العويسي
‏16‏/12‏/2013‏ 11:22:12 ص
حُق لكل أمة أن تفخر بتراثها العريق وحضارتها الغائرة في أعماق التاريخ وثقافتها وتراثها المادي والمعنوي، إذ الهدف منه تحقيق ذلك التمازج البشري في كل حقبه وتواريخه وعصوره، والأمة التي لا تؤمن بماضيها وتتنكر له إنما تنكر أساسيات وجودها، وموقعها في الحضارة الإنسانية وما قدمه أبناءها وما سطره الأسلاف  في عصور خلت، واليوم ونحن في ألفيه القرن الحادي والعشرين باتت المسألة تأخذ مناحي عدة وارتبطت بجوانب أخرى  على مستوى العمل الدولي والوطني وأصبحت قضية ذات أولوية في عمل المنظمات الدولية وتسجيلها للتراث الحضاري العالمي، وبات الحديث عن  التراث مظهرا حضاريا تتسابق الشعوب إلى إبرازه  بطرق مختلفة  سعيا منها  نحو  إبراز تاريخها وعطائها والجوانب المضيئة في حياة الاجداد السابقة وما قدموه للحضارة الإنسانية من علوم وفنون وتراث في شتى مجالات الحياة،  غير أن الاهتمام بالماضي لا يعني بأي حال من الأحوال التغني به أو الانكفاء حوله أو ترداد مغانيه وأغانيه مع ترك مغازيه ومعانيه ودلالاته، بل يعني أن يعمل أبناء الأمة بكل ما من شأنه إعادة امجادها وقوتها وعزتها، وعطاءها ومبادراتها، وتعزيز تلكم الجهود النوعية التي خلدها التاريخ وكتبها بماء الذهب على جبين الدهر، هذا العمل لن ياتي أكله إلا في إطار منهجيات وأطر محددة ، تبدأ من تلقين الأبناء جهود الأسلاف وتعزيز المناهج الدراسية لمفهوم الأصالة والهوية في ظل توازن مع إنسانية العالم وعالمية الإنسان، وفطرة هذا الدين العظيم ورسالة الاسلام للعالمين،
وعلى الرغم من القناعة بأن ماضي الأمة ونجاحاتها إنما هي دروس لنجاحات أقوى وإخفاقاتها إنما هي لمعالجه جديدة للفكر والسلوك تتناول كل مقتضيات الحياة في ظل تشخيص للذات الوطنية وجوانب قصورها ومواطن قوتها وعزتها،  لذلك فإن الانطلاق من الماضي  يجب أن يبرز تحولا جديدا وجديا في حياة الأمة ، هذا التحول يأتي من قناعتها بأن ما قدمه الآباء والأجداد إنما هو كنز للأبناء وانطلاقتهم وإبراز قدرتهم في تقديم ما قدمه الآخرون بل وأكثر مما قدموه، بحيث يغرس في ذات الفرد الحاجة إلى الاتصال الفكري الايجابي والحضاري الإنساني وأن الحياة الإنسانية إنما هي جسر ممدود لحياة جديدة ومرحلة مجيدة تستفيد من ماضيها لحاضرها لمستقبلها.
الأمر الآخر الذي ينبغي الاشارة إليه هو أن الاهتمام بالماضي لا يعني القناعة بكل ما ورد فيه وتقليد كل الممارسات التي وجدت لتتناسب وتلك الفترة ، بل هو دعوة إلى بناء الذات القادرة على النقد والتحليل والبحث والاستقصاء ، وسلوك مسلك نوعي قائم على الدراسة الموضوعية لكل ما خلده الماضي من آثار وبالتالي هو إثراء للفكر ودعوة للتأمل وتعزيز لجهود البحث العلمي والتنقيح والتطوير، وسعي نحو تبني نهجا جديدة ومنهجيات تتوافق مع طبيعة العصر وتتوافق مع متغيراته وتتواكب مع الطبيعة البشرية المتغيرة فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وأن تكون الفترة الماضية  في حياة الأمم والشعوب إنما هي انطلاقة التحول لمستقبل مشرق وقادم أجمل. تستهدف بناء جيلا معتزا بماضيه وفي الوقت  نفسه مهيأ ومشحونا بفكر وبقدرات تؤهله للنجاح والتغلب على تحديات وتغيرات المستقبل
إن ثقافة الاعجاب السلبي التي  يتمسك بها البعض بل أصبحت مائدة سائغة لهم عند التعاطي مع مفهوم الوطنية والوطن، إنما هي نتاج تعصب بغيض وفكر متحجر ، وقناعات غير واقعيه ، وهي مرحلة قد لا تستصيغها منطلقات الانسان المعاصر إذ هي قائمة على  الانتمائية والمناطقية والمذهبيه، وهو إعجاب مضل ، لا يحقق للأمة شانا ولا للمجتمع شأوا، والإنسان الذي ترسخت لديه هذه القناعة بأن الماضي هو الكل في الكل إنما هو نتاج عجزه عن مسايرة الحاضر ومعايشة متطلباته والتعامل مع معطياته، وضحالة ما يمتلكه من بدائل وحلول ومنهجيات وما يرسمه لمستقبل وطنه من خطط وتوجهات واستراتيجيات،  وبالتالي الحاجة لتربية جديدة تقوم على تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين الوطنية والعالمية، بين الذات والمجتمع،  وهو توازن يمكن إدراكه من خلال دور التربية الأسرية والبناء الذاتي  للفرد ومنهج التناصح والتواصل والحوار الأسري ودور التعليم في بناء أطر واضحة تنطلق من المدرسة في الاهتمام بالماضي وبناء الحاضر واستطلاع المستقبل واستشراف  احتياجاته، وبالتالي خلق مناخات جديدة للعمل تؤصل لثقافة الاعجاب الايجابي الذي  لا يتنكر للماضي ولا ينكره بل يجعله ضمن أجنده انطلاقته وأساسيات التحول، إذ هو عبارة عن قيم وأخلاقيات وسمات وخصال وإعجاب بإخلاص أمة ونماذج مضيئة تحكي جوانب القوة والعزة والامانة والمسؤولية في حياة الإنسان، وهي في حقيقة الأمور أمور لا ندعي بأننا اليوم نفقهها بالشكل السليم وما نتصوره لها مجرد  نظريات قد تكون بعيدة عن الواقع، إن الانطلاقة من الماضي إنما هو الترجمة العملية لمفهوم القيم والمبادئ  التي  كانت تعكسها ممارسات الكثير من الأجداد والسلف الصالح ممن سطروا لهذا الوطن التضحيات ورسموا له مستقبله القادم،  ويصبح الاعجاب الايجابي إنما هو مرحلة الاعتراف بالمبذول والحاجة إلى البذل والعطاء والاعتماد على الذات فهو يعترف بحقيقة ما أكسبه هذا الوطن لبني الإنسان من منهجيات للحياة، وهو دعوة للاعتماد على النفس واليقين بالعمل الجاد، وبالتالي تنطلق  مرحلة جديدة تؤكد على مفهوم المواطنة الايجابية بالعمل الجاد وتحمل المسؤولية والمبادرة النوعية والعمل التطوعي والمساهمة الفعالة في الانجاز الوطني،  وبالتالي فإن الوقوف موقف المتفرج من الانجاز أو موقف المتابع لما أنجز وفقط بدون الاسهام في تحويل الانجاز إلى حياة يشعر بها الفرد الإنسان في كل مجالات الحياة بحيث تخرج  من دائرة الفرد ذاته إلى التأثير المجتمعي، إنما  يأتي في إطار السلبية التي لا تقبلها المجتمعات الساعية للتطوير والبناء وترسيخ منهج التنافس الشريف وتمكين المؤسسات وبناء منظومة الإنسان وجعله أولوية كل عمل ومحط كل توجه.
 إن ما يحصل من البعض في طريقة التعبير عن حبهم لأوطانهم ، أو في تصرفاتهم بأنهم يحملون طموحات أوطانهم وأنهم السباقون في الدفاع عنها بسرد منجزات الماضي والاعتماد على ما خلده الاباء والاقتصار على ما انتهت اليه حقبهم ضرب من السلبية الممقوته التي لا تبني وطنا ولا تحقق انجاز ولا تقيم للوطن وزنا ، بل قد تشكل أداة سلبية يتسلق بها البعض في التعبير عن وطنيته بأساليب وشعارات ويتشدق بها على أنه الفارس المغوار الذي يدافع عن حمى وطنه في حين أنه لا يدرك حقيقة المطلوب منه أو يتجاهل عن عمد السلوك الذي عليه أن يلتزم به، ويصبح قياس نجاح المجتمعات اليوميى  بمنظور التوازن الذي تحققه بين تاريخها وتراثها وماضيها ومدى ما استخدمته من ذلك الماضي من منهجيات جيدة لعملها في حاضرها ومستقبلها وفي الوقت نفسه مدى قدرتها على  التأثير على ابنائها وكيانها الوطني في ان تكون له هويته الوطنية في ملبسه وفي هيئته وفي قيمه وأخلاقه ومبادئه وتعاطيه مع حقائق الحياة وتصرفاته في وطنه وخارجه،  هذا التوازن هو الذي تحتاجه الأوطان الراقية، وهو سلوك لا يتحقق إلا في ظل قناعة ذاتية من الفرد وجهد مؤسسي يستهدف تنوير الفرد بالمستقبل وقدرته على فهم دوره ومسؤولياته وإحساسه وشعوره بأن يكون له دورا ومسئوليه في بناء الوطن، في التزامه وفي احترامه وفي حواره ومناقشاته وفي كتاباته وفي اخلاصه في عمله وأمانته واجتهاده في اداء الواجب في ارتباطه بقيمه ومبادئه في اعتزازه بوطنه في قدرته على نقد واقعه بكل موضوعيه فيما يمكن أن يقدمه لوطنه من جهد فكري وبدني  في مبادراته ، في تركيزه على الفعل وارتباطه بالتطبيق وممارسته للعمل ورغبته في التجديد والتطوير ، في الولاء والانتماء، في حكمته وتوازنه، في معالجة منطلقات الحياة وتطوراتها المعاصرة ، في احترامه للانجاز البشري، في عدم تدخله في الشؤون الداخلية للغير، في اهتمامه بإصلاح ذاته وتهذيب صفاته وتغيير تفكيره السلبي، أو في تقييمه لذته ومراجعته لتصرفاته،
هذه القيم والمبادئ التي تقوم على تحقيق التوازن والتي تركز على العمل والانجاز والفعل ذاته والممارسة اكثر من مجرد ترديد عبارات أو تداول معلومات أو اعجاب بكتابات البعض بدون التبصر  أو تحليل أو فهم لما بين السطور، وبدون  الوعي أو قراءة حقيقية لمنطلقاتهم أو افكارهم أو تفاخر وافتخار سلبي ممقوت  ، هي منطلقنا لمعالجة الخلل الحاصل في  التعاطي مع حقيقة الوطن وتجلياته في النفس الإنسانية في وقت بات فيه هذا الأمر يحظى باهتمام ومتابعة الكثير ويجعل منه البعض منطلقا للإعجاب السلبي الذي لا يقدم للوطن أي إنجاز،  إن وعينا بهذا الجانب هو الطريق الأمثل لمعالجة مستدامة  تحول منطق الاعجاب السلبي الحاصل إلى  سلوك ايجابي  قائم على الممارسة الواعية والانجاز النوعي والمبادرة الرائدة.

وإلى لقاء آخر



تعليقات